الحمد لله رب العالمين ، والصلاة
والسلام على رسوله الأمين ، وآله وصحبه أجمعين .
وبعد :
فاذا كان القران الكريم هو أصل الشريعة الاسلامية ومصدرها الأول ، فإن
السنة النبوية الكريمة هي المصدر الثاني من مصادر الأحكام الشرعية ، تستنبط
منها الأحكام بعد القرآن الكريم ، فإن الباحث إذا لم يجد فى القرآن الكريم
الحكم الشرعي مما يريد معرفته من أحكام دينه ، لجأ الى السنة النبوية ،
يبحث فيها عما يريد ، لقوله جل شأنه مخبرا بأنها من عنده تعالى ، وأن كلام
هذا النبي صلى الله عليه وسلم يعتبر وحيا من الله ؛ يقول تعالى : ( والنجم إذا هوى * مَا ضَلَّ
صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ
إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) ( النجم : 1-4 ).
فقوله ( صاحبكم )
يعني نبينا -صلى الله عليه وسلم- فأخبر تعالى بأنه ما ضل عن الصراط السوي
بسبب الجهل بالحق ، وأنه لم يكن من الغاوين الذين عرفوا الحق وتركوه عمدا ،
بل إنه من الراشدين المهتدين ، وأنه لا ينطق عن الهوى ، وإنما يتكلم بما
أوحى الله إليه .
ولذا فقد أمر الله تعالى بطاعة نبيه
صلى الله عليه وسلم في آيات كثيرة من كتابه الكريم ، منها :
1- فقال سبحانه وتعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) (
النساء : 59 ).
قال الطبري : يا أيها الذين آمنوا
أطيعوا الله ربكم فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه ، وأطيعوا رسوله محمدا صلى
الله عليه وسلم ، فإن في طاعتكم إياه لربكم طاعة ، وذلك أنكم تطيعونه لأمر
الله إياكم بطاعته .
وهو أمر من الله بطاعة رسوله في
حياته فيما أمر ونهى ، وبعد وفاته باتباع سنته ، وذلك أن الله عم الأمر
بطاعته ، لم يخصص بذلك في حال دون حال ، فهو على العموم حتى يخصَّ ذلك ما
يجب التسليم له انتهى .
وطاعة أولي الأمر ـ وهم العلماء و
الأمراء ـ « إنما هي تبعٌ لااستقلال ،
ولهذا قَرَنها بطاعة الله والرسول ولم يُعد العاملَ ، وأفْرَد طاعة الرسول
وأعاد العامل ، لئلا يُتوهّم أنه إنما يطاع كما يطاع أولو الأمر تبعاً ،
وليس كذلك ، بل طاعته واجبة استقلالاً ، سواء كان ما أمر به ونهى عنه في
القرآن أو لم يكن » .
2- وقال تعالى: ( اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ
رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا
تَذَكَّرُونَ ) ( الأعراف :3 ).
أي: اتبعوا الكتاب ، ومثله السنة ،
لقوله تعالى ( وَمَا آتَاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا )
ونحوها من الآيات ، وهو أمر للنبي
صلى الله عليه وسلم ولأمته .
3- وقال عز وجل: ( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ
فَأُولئِكَ مَعَ الذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ
وَالصِّدِّقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ
رَفِيقًا ) ( النساء : 69 ).
قال الطبري: ( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ )
بالتسليم لأمرهما ، وإخلاص الرضى بحكمهما، والانتهاء إلى أمرهما ،
والانزجار عما نهيا عنه من معصية الله ، فهو مع الذين أنعم الله عليهم
بهدايته ، والتوفيق لطاعته في الدنيا ، من أنبيائه ، وفي الآخرة إذا دخل
الجنة ، والصديقين … انتهى المقصود منه.
4- وقال تعالى ( ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن
واتبع ملة إبراهيم حنيفا ) ( النساء : 125 ) .
فمعنى ( أسلم وجهه ): أي أخلص
العمل لربه عز وجل .
( وهو محسن ) أي اتبع في عمله ما شرعه الله على لسان رسوله عليه الصلاة
والسلام ، وما أرسله الله به من الهدى ودين الحق .
وهما شرطان لا يصح عمل عامل بدونهما .
5- وقال سبحانه وتعالى: ( فَلْيَحْذَرِ الذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ
أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُم فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ عَلِيمٌ )
(النور : 63).
قال ابن كثير: وقوله: ( فَلْيَحْذَرِ الذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ
أَمْرِهِ )
أي: عن أمر رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو سبيله ومنهاجه و طريقته وسنته وشريعته ، فتوزن الأقوال والأعمال
، بأقواله وأعماله ، فما وافق ذلك قُبل ، وما خالفه مردود على قائله
وفاعله كائناً من كان ، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما : عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه قال : « من عمل
عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌ ».
أي: فليحذر و ليخش من خالف شريعة الرسول باطناً وظاهراً
( أَنْ تُصِيبَهُم فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ عَلِيمٌ )
أي: في الدنيا بقتلٍ ، أو حدٍّ ، أو
حبسٍ أونحو ذلك .
وأيضا السنة النبوية الكريمة مبينة
للقرآن الكريم ، وموضحه لمبهمه ، وشارحة لآياته ، كما قال تعالى ( وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس مانزل
اليهم ) ( النحل : 44 ).
ففي السنة مزيد بيان للتوحيد والإيمان ، وأعداد الصلوات ومواقيتها ،
ومقادير الزكوات وأنصبتها ، ومناسك الحج والعمرة ، وكثير من المعاملات
والأخلاق ، وآداب السلوك .
وإذا كان الأمر كذلك ، فإن علينا
أن نتمسك بالسنة النبوية ، وأن نسير عليها ولو خالفنا من خالفنا من الناس .
وقد أوصى - صلى الله عليه وسلم - صحابته بذلك ، ففي الحديث الصحيح عن
العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون ، فقلنا: يا رسول الله كأنها
موعظة مودع؛ فأوصنا ، فقال : " أوصيكم
بتقوى الله ، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد ، فإنه من يعش منكم فسيرى
اختلافا كثيرا ؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ،
تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة
بدعة ، وكل بدعة ضلالة " . رواه أحمد وأصحاب السنن .
فعلينا إذن أن نتمسك بالسنن بأيدينا
، وإذا خشينا أن تتفلت منا ، عضضنا عليها بالنواجذ التي هي أقصى الأسنان ،
كما قال : " عضوا عليها بالنواجذ "
.
" وإياكم ومحدثات الأمور " أي
: ابتعدوا عن المحدثات وعن البدع والضلالات ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل
بدعة ضلالة ، فكل ما أحدث في دين الله تعالى فإنه من البدع ، التي هي
مردودة على أصحابها.
كما قال صلى الله عليه وسلم في
الحديث الآخر : " من أحدث في أمرنا
هذا ما ليس منه ، فهو رد " متفق عليه .
أي : مردود على أهله ، وعلى من جاء به ، لا أجر له فيه ، لأنه شرع شيئا لم
يأذن به الله تعالى .
فلذلك من كان متمسكا بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فإنه بلا شك سائر على
طريق اليقين بحصول الأجر والثواب ، وحصول النجاة له في الآخرة .
فعليك ياعبد الله بسنة النبي -صلى
الله عليه وسلم- فسر عليها ، ولو خالفك من خالفك ، ولا تغتر بكثرة الهالكين
، ولا بكثرة المنحرفين .
فالصحابة كأنهم فهموا من تلك الموعظة أنه صلى الله عليه وسلم سوف يودعهم
ويفارقهم ، وقد يكون ذلك في آخر حياته ، لما وعظهم بتلك الموعظة ، فعند ذلك
عهد إليهم وأوصاهم بما أوصاهم به ، وهو أن يتمسكوا بسنته صلى الله عليه
وسلم ، وسنة خلفائه الراشدين ، الذين هم : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي
الله عنهم- فإنهم الذين قاموا بالسنن بعده ، والذين هداهم الله وهدى بهم
العباد ، وفتح بهم البلاد ، وانتشر بواسطة دعوتهم الإسلام ، ونقلوا لنا هم
وبقية الصحابة كلام ربنا ، ونقلوا لنا أفعال نبينا صلى الله عليه وسلم
وأقواله وبقية سنته ، وكل ذلك من فضل الله تعالى علينا.
فالواجب علينا أن نتمسك بهذه السنة
النبوية ، التي تركنا عليها -صلى الله عليه وسلم- وأخبر بأن من سار عليها
نجا ، ومن تركها فقد هلك وتعرض للهلاك .
فقال صلى الله عليه وسلم : " كل أمتي
يدخلون الجنة إلا أبى " قالوا : ومن يأبى يارسول الله ؟! قال : " من أطاعني دخل الجنة ، ومن عصاني فقد أبى "
رواه البخاري .
وضرب صلى الله عليه وسلم لأمته
مثلا ، فخط لهم خطا مستقيما ، وخط عن يمينه وعن شماله خطوطا ، وقال : " هذا صراط الله مستقيما ، وهذه السبل على
كل سبيل منها شيطان ، يدعو إليها " ثم قرأ ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق
بكم عن سبيله ) ( الأنعام : 153 ) رواه أحمد والدارمي .
فقوله : " هذا صراط الله " يعني هذا الطريق المستقيم - هو
صراط الله ، وهو سبيله الذي فرضه على عباده ، والذي أمرهم بأن يسألوه كل
يوم في قولهم في صلاتهم : ( اهْدِنَا
الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ).
وهذه السبل والطرق التي عن يمينه وعن شماله ، هي البدع والمحدثات والأهواء
والآراء ، والتي من سار عليها فإنه في طريقه إلى الهلاك والضلال عن الصراط
المستقيم .
فحذر صلى الله عليه وسلم أمته سلوك تلك الطرق الملتوية المعوجة عن الصراط
المستقيم ، والتي من سار عليها تردى ، ووصل إلى النار -والعياذ بالله-.
وأما من سار على الصراط السوي الذي لا انحراف فيه ولا اعوجاج ، فإن الله
تعالى ينجيه من الضلال ، ويسلك به طريق الهداية الموصل للجنة .
فإن لكل فرقة طريقا تتخذه وتسير
عليه ، ومطاعا ترجع في دينها إليه ، وقد أخبر النبي محمد - صلى الله عليه
وسلم- بأن أمته سوف تتفرق وتختلف ، فقال عليه الصلاة والسلام : " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ،
وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق هذه الأمة على ثلاث
وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة " فقيل : من هم ؟ فقال : " من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي
" . حديث صحيح مشهور ، رواه أحمد وغيره .
إذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم-
قد أخبر بأن الذين على سبيل النجاة فرقة واحدة ، وهم الذين أخبر بأنهم
ناجون ، فكيف ينخدع المسلم بالكثير والكثير بالذين خالفوا هذه السنة ،
وساروا على طرق منحرفة ملتوية .
فعلى المسلم والمسلمة أن يتمسكوا
بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولو كثر المخالفون ، ولو كثر المبتدعون ،
ولو كثرت النحل ، وتفرقت الفرق .
وهذه الفرق وهذه النحل الثنتان
والسبعون ، هي فرق البدع والمحدثات والضلال ، وهم الخارجون عن الصراط
المستقيم ، وقد أدرك بعضَهم بعضُ الصحابة ، وفشوا وانتشروا في عهد التابعين
، وعظموا وعظمت الفتنة بعد القرون الثلاثة المفضلة ، فحدثت الفتن والبدع
وانتشرت وتمكنت ، وهي التي حذرنا عنها صلى الله عليه وسلم وأمرنا بأن
نتمسك بالسنة الثابتة ، والسنة واضحة جلية – والحمد لله -.
فعلى المسلم أن يقصد وجه الله ،
ويعمل برضاه ، ويسير على النهج القويم ، ودليله سنة النبي محمد - صلى الله
عليه وسلم - التي هي سبيل النجاة ، التي هي الوسيلة لمن أراد النجاة ،
وأراد الاتباع ، وأراد أن يحشر في زمرة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- .
فأما ما يضاف إلى هذه السنة من البدع ومن المحدثات ، فإن ذلك لا شك أنه
ضلال وانحراف .
فعلى المسلم أن يقصد وجه الله أولا ، وأن يتمسك بسنته التي كان -صلى الله
عليه وسلم- يوصي عباده بأن يسيروا عليها فهو في كل خطبة غالبا يقول لهم : "
إن أفضل الكلام كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر
الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة " . رواه مسلم وغيره .
فيبين لهم أن النجاة تكون باتباع
كلام الله تعالى ، وباتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم .
فنسال الله تعالى أن يحيينا على
السنة ، وأن يميتنا عليها ، وأن يحمينا وإخواننا جميعا من البدع وأهلها ،
إنه سميع عليم .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين